انقدت طائعا لرغبة إبني كنعان في اقتناء عصافير وقفص.
أوقفت السيّارة لصق الرصيف أمام محل ( طيور وحيوانات أليفة).
فتح كنعان باب السيّارة المحاذي للرصيف بسرعة، واندفع باتجاه واجهة المحل، وأخذ يتأمل الطيور المختلفة الألوان والأحجام.
صاحب المحل خرج وهو يفرك يديه، وهو شاب طويل نحيل، شعره معقوص وراء رأسه.
ـ بأمركم.
كنعان أشار إلى العصافير.
البائع ابتسم:
ـ هذه كلها عصافير جنّة، وهذه العصافير صغيرة لطيفة. الأنثى لونها أصفر وابيض، والذكر
أسود منقّط بأبيض، أو أبيض منقّط بأسود، وتوجد ألوان مختلفة أيضا.
وقف كنعان مأخوذا بالعصافير الصغيرة، وأخذ يتابع نطنطتها داخل القفص الكبير.
البائع مستدرجا كنعان للشراء:
ـ هذه عصافير حب بديعة، وهي لا تتطلّب عناية كثيرة، تأكل قليلاً، وتبيض كثيرا..إنها لذيذة فعلاً .
( أنا لم أعرف كيف تكون هذه العصافير لذيذة وهي لا تؤكل).
أمام دهشتي التي لحظها صاحب المحل، أضاف:
ـ إنها تسقسق طيلة الوقت، أقول: تسقسق..وليست تغرّد.
وأضاف وهو ينحني على القفص الكبير الذي تتقافز بين قضبانه عشرات منها:
ـ إنها مسلية، وغير مزعجة، وسقسقتها ناعمة لطيفة مؤنسة.
جذب كنعان راحة يدي فانحنيت قليلاً، فهمس في أذني:
ـ أريد زوجا منها..
بذكاء التقط البائع رغبة كنعان، وقال:
ـ خيار موفق، سأعطيك ذكرا وأنثى، وستبيض خلال ثلاثة أشهر، ومن بعد ستتكاثر عندك، وعندها سأشتري منك ما تستغني عنه منها، وهكذا تربح، وتتسلّى...
سأله كنعان:
ـ وماذا نطعمها؟
حفن البائع من كيس حبوبا ناعمة:
ـ من هذه، فمعدتها ناعمة وصغيرة. لا تطعمها أي شيء عدا هذه، لأنك قد تؤذيها. وضع لها ماءً نظيفا.
استدار البائع وأشار إلى الأقفاص:
ـ خذ لهما واحدا إذا رغبت، مع أنني أفضّل أن تأخذ قفصين حتى تفرّق بين الذكر والأنثى ليشتاقا لبعضهما. عندما تزداد سقسقتهما ضعهما معا في قفص واحد..لأن الأنثى تكون جاهزة لتبيض...
بسرعة أحضر قفصين. وضع أنثى وذكرا في بين قضبان أحدهما. وأبقى الثاني فارغا.
الأنثى لونها أبيض وأصفر فاتح رشيق، والذكر لونه رمادي منقّط بالأبيض.
أشار البائع، وهو يدسّ إصبعه بين الأسلاك المعدنية:
ـ تلك أنثى، وهي التي ستبيض..راقب حركتها بعد شهرين، أو ثلاثة.
وهو يعيد بقية الورقتين النقديتين من فئة الخمسين دينارا، توجه بالحديث لكنعان:
ـ هما لا يعرفان بعضهما، ولكنهما بعد يومين، أو ثلاثة، سيتعارفان ويتآلفان.
ثمّ نظر إلي:
ـ هذه هي الدنيا، هكذا تمضي الحياة بين العصافير، وبين البشر...
حمل كنعان قفص العصفورين بحرص، واتجه إلى السيّارة، لكن صوت البائع استوقفه:
ـ عندما تبيض عليك أن تسدل عليها غطاءً. احمها من البرد والحرّ حتى لا تفسد البيوض.
حييته وأنا أحمل القفص الفارغ الثاني.
في الأيّام الأولى توترت من سقسقتهما التي تشبه حكّ سلك مدبب على الزجاج: سيقسيقسيق
سسق..سق...
ولكنني تحمّلت، فمع مرور الوقت اعتدت على هذه السقسقة التي لا تطرب، والتي عندما أكون
وحدي في البيت فإنها تجعلني أشعر أنني لست وحدي.
بعد حوالي ستة أشهر باضت الأنثى فغطّى كنعان القفص، ولكن شيئا ما حدث أفسد البيوض،
فرماها كنعان حزينا، وشمّس القفص لتطهيره، وعادت السقسقة الحادة العصبيّة من جديد، تفيض
من القفص، وتتعالى في الصالون حيث يضع كنعان القفص، ويعلقه في مسمار كبير دقّه في الجدار
بحيث لا تصل إليه القطط التي ما إن يُفتح باب المطبخ، أو باب الصالون، حتى تندفع بلمح البصر،
وتأخذ في رفع أعناقها باتجاه القفصين المعلقين عاليا، وتخميش الهواء بقوائهما الأمامية متلمظة
وهي تطلق مواءً حادا متوعدا.
مرّة وضعنا العصفورين على طاولة نضعها على الشرفة أمام المطبخ، وسهونا فإذا بالقطط تقفز
على الطاولة وتسقط القفص، ولولا انتباهنا لمزقت القطط العصفورتين بمخالبها التي امتدت عبر
الأسلاك!
بعد طول عشرة تآلفا وأخذا ينطنطان معا، يتقاربان، يتلاصقان، يحكان رأسيهما يبعضهما، يصمتان
عن السقسقة، ويغمضان عيونهما، ثمّ بانتشاء يطلقان سقسقة ناعمة مع نطنطة جذلى تنسينا حدّة
السقسقة الثرثارة.
سنتان وبضعة أيام في القفص الواحد غالبا،إلاّ في الفترة المحدودة التي تسبق موسم بيض العصفورة.
عندما يفتح باب القفص للتنظيف، وتبديل الماء، ووضع الحبوب، فإنهما ينزويان كأنهما يخشيان من
الفضاء الخارجي.، أو من عزلهما عن بعضهما كما يحدث بين فترة وأُخرى.
ناداني كنعان ذات صباح:
ـ انظر يا أبي.
نظرت مجاملة له، ولكن بلامبالاة، فلدي مشاغل أهم من شؤون العصافير، وعاداتها، وأمزجتها، واحتياجاتها.
أشار إلى العصفور الذكر المنطرح على أرضية القفص:
ـ أترى يا أبي: إنه يرتجف.
لفت انتباهي أن بدن العصفور يختلج اختلاجات سريعة، ثمّ بدأ يهمد إلى أن سكن بدنه، وهدأ جناحاه والتصقا ببدنه الذي بدا وكأنه منتفخ البطن.
همس كنعان بحزن، وهو يدسّ يده عبر باب القفص، متلمسا العصفور ومحاولاً تحريكه برفق،
والعصفور لا يستجيب، بينما العصفورة تتجمّع على نفسها في الزاوية، تنظر هازة ذيلها، صامتة،
مندهشة مما يجري.
أخرج كنعان يده من القفص، وأغلق بابه.
بدا كنعان واجما، وأنا لم أتحرك، شيء ما يدفعني لمراقبة ما يجري.
نطّت العصفورة من الزاوية إلى أرض القفص، دارت حول جثّة العصفور، بمنقارها اللطيف
حاولت أن تنبهه من نومه، ولكنه لم يتحرّك، فزعقت زعقة قوية لا شأن لها بالسقسقة، ثمّ تمددت
بجواره وبدنها يرتجف.
صبيحة اليوم التالي لم نعد نسمع سقسقة في القفص، ولمّا ناداني كنعان، وهو يقف أمام القفص
وقد وضعه على مائدة ( السُفرة) دهشت لمرأى العصفورة وقد رقدت ساكنة تماما، وهي تفرد
جناحها على بدن العصفور.
راح كنعان إلى حيث شجرة الورد الجوري، وحفر بجوارها حفرة صغيرة عميقة، ثمّ عاد وحمل
القفص الذي كان يضمهما غالبا، وأخرج العصفورتين المتعانقتين بحرص، ووضعهما معا، وأهال
عليهما التراب، وعلّق القفص في غصن وارف يميل عليهما، وترك بابه مشرعا.
سألته وأنا أربت على كتفه:
ـ هل ستحضر عصفورين غيرهما؟
نظر إلي بحزن، وحرّك رأسه إلى أعلى بحركة نفي دون كلام، بينما نظرته مائلة ومركزة
على الموقع الذي دفن فيه العصفورين الراحلين.
منقول :lol!: